ترشيد الحقل الثقافي وأسئلة الديمقراطية-رشيد المومني - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

ترشيد الحقل الثقافي وأسئلة الديمقراطية

  رشيد المومني    

يقترن سؤال ترشيد الحقل الثقافي في علاقته بأسئلة الديمقراطية، تاريخيا بسلسلة طويلة من الصراعات المريرة التي أكرهت الطليعة المثقفة على خوضها ضد الجهات الرسمية ، منذ بداية الاستقلال إلى الآن  ،متحملة بذلك  مسؤولية صياغة مشاريع ثقافية مغايرة ، تتطلع إلى ترشيد وتفعيل المشهد الثقافي، من منطلق رؤيتها للعمل الثقافي، باعتباره  واجهة أساسية من واجهات النضال الثقافي والسياسي ،  المستشرف لآفاق حداثية  ومستقبلية ، تقطع  مع أزمنة وسدنة الحجر الفكري والإبداعي ، التي دأبت  على  تحجيم دور المثقف ، ومصادرة حقه في التعبير والوجود ، وبالتالي إجباره على الامتثال إلى سلطة ثقافة مخزنية ،  لا تعترف بغير ثقافة الولاء  .
ودون الخوض في تفاصيل هذا الصراع  اللآمتكافئ ،الذي عانت وتعاني منه الثقافية الوطنية ضد الأجهزة الرسمية،  بما في ذلك الجهة الوصية ،التي كانت وما تزال، تتفنن في إبداع كل أساليب الإجهاز على المكتسبات الثقافية الحقيقية، نكتفي بالإشارة إلى مرحلة الثمانينيات التي شهدت ظاهرة فبركة جمعيات السهول والجبال العملاقة، التي تمكنت في حيز زمني صغير من استقطاب طابور خامس من المثقفين الخبيرين بإفساد المشهد الثقافي  المغربي، وتحريف مساره، لتكون بذلك الناطقة الرسمية باسم الثقافة المغربية  المفترى عليها ، ومؤازرة طبعا  بسلطة  إعلامية  منحازة  ومتواطئة ، أخذت على عاتقها  تخريب ما يتم تحقيقه من إنجازات الثقافة الوطنية الجديدة والمستقبلية  .
نخلص من هذا التقديم الموجز ، إلى التأكيد من جديد على أن سؤال ترشيد الحقل الثقافي من وجهة نظر ديمقراطية  ، كان وسيظل القضية الأولى بالنسبة للنضال الثقافي، والذي تجسده الكثير من المبادرات الجادة والهادفة  والمتمحورة  حول  مبدإ وجوب الأخذ بعين الاعتبار، كل المكتسبات الثقافية  التي راكمتها وتراكمها الثقافة الوطنية الجديدة ، في مساراتها الفكرية والإبداعية والفنية ، باعتبار أن حصيلة هذا التراكم  أولا : أمانة تاريخية في عنق الأجيال الحاضرة المطالبة بحمايتها من أيدي العابثين و العمل على إغنائها قصد تسليم مشعلها إلى الأجيال المستقبلية  . وثانيا : باعتبارها جسرا حقيقيا للتواصل المتكافئ مع شعوب العالم الذي تحول في العقود الأخيرة إلى قرية صغيرة ، لا يمكن أن يحظى بالإقامة فيها إلا من يمتلك  إواليات التواصل الحضاري المستند على أسس الحداثة البناءة والاختلاف الخلاق ، فالمجتمعات   أو بالأحرى مؤسساتها الوصية المتجاهلة، لما يمكن أن يقوم به العمل الثقافي من أدوار طلائعية في  النهوض بالشأن التنموي والاجتماعي لأفرادها وجماعاتها  ، تحكم على نفسها بالبقاء خارج  دائرة التاريخ ، بعيدا عن تفاعلات  المشهد الكوني وتحولاته .
وثالثا ، وتأسيسا على ذلك ، سيكون من الطبيعي أن  تتخذ مسؤولية الترشيد الديمقراطي للثقافة ، أبعادا شائكة ومضاعفة من حيث نوعية مساراتها  و طبيعة انشغالاتها ، حيث أنها مطالبة  بممارسة مهام تصحيحية ، إلى جانب اضطلاعها بالمهام التأسيسية ،حيث يتعلق الأمر أولا، بتنظيف الحقل الثقافي من الطحالب السامة التي دأبت  التوجهات المخزنية على إدمان زرعها في رحابه ، كخطوة أساسية  لإعادة هيكلته ، وثانيا بتأسيس تقاليد وقيم  ثقافية ،جديدة على قاعدة رؤية ديمقراطية  تستهدف مجموع التراب الوطني، وخاصة منه  الجغرافيات المنسية التي تعاني من الحصار المعرفي بسبب إكراهها  على الانصراف بالكاد ، إلى تأمين الحد الأدنى من البقاء على قيد الحياة. وهو الشيء الذي لا يمكن أن يتحقق بين يوم وليلة  ،  مادام الأمر يتعلق بوجوب وضرورة فتح عدد هائل من الأوراش الثقافية على أرضية تشاركيه موسعة ، تساهم  فيها كل الجهات المعنية بالشأن الثقافي بدءا بالجهات الوصية والوزارات ذات الصلة ، إلى مختلف جمعيات المجتمع المدني ، مرورا  بالمنظمات الثقافية الأساسية،  ومؤطرة  بمجلس وطني  يتحمل مسؤولية التوجيه والمتابعة. كما أن  أي  حديث  مسؤول وموضوعي عن ترشيد الحقل الثقافي بالمغرب  ،لا يمكن أن يتحقق  إلا على أساس توافر شروط حكامة  فعلية ، تستمد مصداقيتها وشرعيتها أولا:- من تقدم وعيها بتحولات اللحظة التاريخية ، خاصة في  الظرفية الراهنة التي استعادت فيها و بشكل علني وصريح، الكثير من الأسئلة قدرتها على تأكيد حضورها القوي في مشهدنا الاجتماعي والسياسي ، بعد أن تمكنت أخيرا من الإطاحة بحواجز التهميش والتغييب والتحريف ،التي كانت تحول ولعدة عقود خلت دون  تمظهرها .  وثانيا من قدرتها على الإحاطة بمجمل مكونات العمل الثقافي وقطاعاته المختلفة والمتعددة ، وسبل تفعيله على أسس ديمقراطية حداثية.
إن تفعيل عملية الترشيد تقتضي توفر الجهات الوصية والمعنية عموما،  على قناعات متجذرة  بجدوى العمل الثقافي ، باعتباره أحد  أهم المكونات الحضارية لهوية مغربية منفتحة ، ومؤهلة للانفتاح على الخطابات الكونية الهادفة والبناءة . كما أن مصداقيتها ستكون مستمدة  من ارتكازها على ما راكمه الحقل الثقافي في مساره النضالي من تجارب وخبرات،  هي جماع تضحيات وجهود فردية وجماعية كرست وجودها وكينونتها لإثراء الفضاء المعرفي والإبداعي والفني،  بكل اختصاصاته وتوجهاته كي يتحول إلى إرث  حي تعتد به الذاكرة الثقافية  ، كما يكون مجالا لتلاقح تجارب الأجيال السابقة بمنجزات الأجيال المستقبلية  . إذ في غياب هذه القناعة  يفقد هذا الإرث وهذا التراكم  كل مقوماته ، ليصبح في نهاية المطاف في حكم النسيان ، مما يشجع الرداءة على تكريس حضورها البشع ، وهو ما يؤثر سلبا على المسار الطبيعي لهذا التراكم ، ويؤدي إلى إجهاض عمقه الثقافي. كما  ينبغي أن يشمل هذا الاقتناع أهم مكونات الحقل الثقافي ، مما يساهم في تحقيق القدر اللازم  من التوازن بين مختلف مجالات  قطاعاته ومجالاته  ، من أجل وضح حد لهيمنة التوجهات الاختزالية والتسطيحية التي تمارس الكثير من التشويش على المشهد الثقافي ، حينما تلح على إغراقه في طوفان من التظاهرات الترفيهية بالمفهوم القدحي  للكلمة، كما هو الشأن بالنسبة لظاهرة المهرجانات الفولكلورية  ،التي تمارس إعلاميا إقصاءها الضمني  لأهم مكونات المشهد الثقافي ،فضلا عن هدرها المهول للمال العام ، مما يؤدي حتما إلى تقطيع أوصال هذه الهوية الثقافية،ويحول دون الاستمرارفي بلورة مقوماتها.
إن إسهام  النخب الثقافية في بلورة قناعاتهم من خلال إغنائهم لكل المبادرات الثقافية ذات العمق التصحيحي والتأسيسي  المستقبلي، يؤثر بشكل مباشر وفعال  في تعميق الوعي لدى مختلف الشرائح الاجتماعية بضرورة توفير كافة شروط دمقرطة العمل الثقافي،  وفي مقدمتها ، التعجيل بوضع استراتيجبة  شاملة  تحظى بإجماع الفاعلين .في أفق تفعيل وتحيين بنودها، التي من المفترض أن تتميز بسلطتها الإلزامية    ،بقوة  ما ستمتلكه من  إطار مؤسساتي وقانوني .
و بالنظر إلى تعدد القضايا النظرية والتقنية التي يمكن أن تتمحور حولها هذه الإستراتيجية، سنكتفي  بالإشارة المركزة لما يمكن اعتباره الخيط الناظم لمحاورها، والمعبر عنه سلفا في المبادرات الثقافية الأخيرة ، وهو المتمثل في ضرورة تبنيها لرؤية تحديثية  وديمقراطية  تحكم منهجية توجهها ، ذلك أن الرؤية التحديثية  شرط أساسي من شروط الترشيد الثقافي ، ومطلب مبدئي كفيل بمحو كل النقط السوداء العالقة بالممارسات التقليدية، وخاصة الظلامية منها. كما أن مطلب التحديث يمتلك من المقومات ما يجعله  مستجيبا لكافة شروط  التفعيل الثقافي  وخاصة منها شرط  حرية التعبير ، والحق في الاختلاف ، فضلا عن جانبه التقني  ، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لتسويق  وتعميم المنتوج الثقافي  ، ليس فقط على المستوى الوطني، ولكن أيضا على  المستوى الكوني . إذ في ظل عياب فعل تسويق وترويج حداثي ، لن يكون ثمة  مجال  للحديث عن حداثة  فكرية أو إبداعية، تعاني  سلفا من أعطاب  الممارسات الارتجالية أو المزاجية ،  مادامت مفتقرة إلى مقومات حضورها وتفاعلها الإعلامي .
وفي نفس السياق ، يمكن الإشارة إلى الجانب المتعلق بتحديث  البنيات التحتية التي تعتبر ضرورية  للنهوض بالعمل الثقافي ، سواء منها المتعلقة بالكتاب أو مختلف القطاعات الفنية . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، يتعذر الحديث عن ازدهار القراءة بعيدا عن  الشروط الكفيلة بتعميمها ،من خلال استحداث وسائطها الأساسية، ابتداء من دعم الكتاب إلى شروط توزيعه ، وفضاءات تلقيه ،التي تضمن  قربه وحضوره الطبيعي والفعلي من الباحثين والدارسين وعموم قرائه. أيضا لا مجال  للحديث عن  فن مسرحي بدون توفير قاعات وتقنيات العرض ، والتي لا ينبغي أن تظل منحصرة في المراكز التقليدية للعمل الثقافي .  نفس الشيء بالنسبة للمعاهد الموسيقية ،و القاعات السينمائية ،و دور الثقافة  فضلا عن الخزانات التراثية والمكتبات الوسائطية و المتاحف  ، وهو ما يستوجب القيام بجرد عام للحاجيات التي تفتقر إليها هذه البنيات التحتية في مجموع التراب الوطني . وفي السياق ذاته ينبغي القطع مع المنهجية التقليدية المعتمدة عادة في تفعيل هذه البنيات ، وخاصة فيما يتعلق بالموارد البشرية المسؤولة على تسييرها وإدارتها ، حيث يجب توخي مبدأ الكفاءة والخبرة والاختصاص في تكليف الأطر والعاملين بهذه الفضاءات التي عودتنا التجارب على تعرضها المبكر للتدهور فور انتهاء  أشغال بنائها أ وترميمها ، بفعل وضعها بين أيدي ما لا يد لهم في المعرفة أو التدبير . علما بأن هذه البنايات أو المؤسسات تستمد مشروعيتها من مصداقية الأطر المسؤولة عن تسييرها.
كذلك الشأن بالنسبة  لدمقرطة الحقل الثقافي الذي يظل في حاجة ماسة إلى نصوص تشريعية ،  تخرجه  من إطاره الإقصائي الذي يوجد عليه الآن ، وهو أحد أهم  المطالب النضالية التي دأبت على المناداة بها مختلف القوى الثقافية الحية منذ عقود خلت ،  مادامت الديمقراطية تفيد وجوب استفادة الجميع من حق الثقافي بكل مستوياتهم الاجتماعية واللغوية وفئاتهم العمرية ، أيضا في مختلف  جهات المملكة    دون أن تظل منحصرة في المراكز الثقافية التقليدية،  بدعوى عدم حاجة الجهات الغير النافعة إلى العمل الثقافي ، كما لو أن الأمر يتعلق بترف قابل للتجاوز ، وهو ما تفنده  تجارب بعض المنظمات الثقافية المسؤولة ، التي أكدت بما تنظمه من تظاهرات فنية وإبداعية في هذه الهوامش المنسية والمغيبة ، تعطش ساكنتها إلى العمل الثقافي الجاد،  بكل أنواعه وأشكاله .
وبالنظر إلى عمق القضايا التي يثيرها سؤال دمقرطة وترشيد الحقل الثقافي ، والتي لا يسمح الحيز الرماني المخصص لهذه الورقة،  بالخوض في تفاصيلها، أجدني مضطرا للاكتفاء بهذا القدر الذي أتمنى أن يكون أرضية مؤهلة لتعميق و إغناء النقاش، حول موضوع  يكتسي من الأهمية ، ما يجعله باستمرار في حاجة دائمة إلى المقاربة  والدرس والتحليل .



 
  رشيد المومني - المغرب (2011-03-26)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

ترشيد الحقل الثقافي وأسئلة الديمقراطية-رشيد المومني - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia